وهو مسعى ينطوي على مجازفة كبيرة، قد تنتهي إلى وقوف حائر بين أسلوبين في النظر إلى وظيفة الفن: الصورة والفكرة. وهما طاقتا تعبير قد لا يحقق اصطدامهما الهدف الذي يحاول الفنان أن يكون وفيا له. وهو هدف مزدوج الفاعلية. فمن جهة تخرج الصورة عن اطار جمالياتها التقليدية، ومن جهة أخرى تفارق الفكرة جفافها النظري متماهية مع المادة التي تظهر من خلالها. وهو كما أرى توازن صعب هرب منه الكثير من فناني ما بعد الحداثة من خلال اخلاصهم للفكرة، باعتبارها المبدأ الوحيد الذي يُمكن الفنان من انتاج فن سياسي ــ اجتماعي قادر على التأثير في محيطه من خلال لغة فنية. كوفي عل العكس من ذلك تماما، ظل متمسكا بالصورة خيارا تعبيريا، من غير أن يخضع لشروطها الجمالية، بل كان نظره ينقب داخل الصورة، بحثا عن الفكرة التي تهب تلك الصورة قيمة مضافة. بهذا المعنى تكون كل صورة منه هي كيان مستقل، غير أن ذلك الكيان لا يتباهى باستقلاله الشكلي إلا من خلال قوة فكرته الكامنة.
في عمله الجديد (غسيل دماغ) الذي عُرض ضمن معرض (النظر صدق) الذي أقامته مؤسسة الفن المعاصر في برلين (الراعية لبينالي برلين الدولي) تتسق التجربة البصرية مع التجربة الذهنية بطريقة آخاذة، حتى لكأنهما تنبعثان من مكان واحد. الواحدة مرآة للأخرى، تعكسها وتضيف إليها بما ينقص أو يزيد من المعاني والتكهنات. هذا العمل عبارة عن لوحتين متجاورتين. كل واحدة منها بقياس (150/150). على سطح اللوحة التي على اليسار كانت هناك صابونة بلدي (غار) اما على الثانية فقد ظهر حجر أسود كان (لا يزال) يستعمل عند الاستحمام لإزالة الطبقات الزائدة التي تتكون على جلد قاع القدمين. هل يمكننا الاكتفاء بالصورتين باعتبارهما تمثلان وقائع حسية معاشة، يمكنها أن تكون جزءا من حكاية فلكلورية شيقة وطريفة؟ الفكرة ليست هنا. النظر إلى العمل لابد أن يؤدي إلى عملية تأمل قد لا تكون مريحة في كل مراحلها. ما لا يمكن أن يستغني عنه المرء وهو يشاهد أي عمل فني النظر إلى الورقة الصغيرة التي غالبا ما تلصق على الجدار يمين العمل والتي تحتوي على اسم الفنان وعنوان ذلك العمل. وهكذا فلابد أن يكون المشاهد قد قرأ تعبير (غسيل دماغ) فضاعت الصورة في متاهة المعاني المتعددة.
ولع نديم كوفي بالصابون ليس جديدا. لقد جرب ذات مرة أن ينتج صابونا من الأعشاب يحمل توقيعه، غير أنه اكتشف وهو الغريب أن ذلك الصابون سيكون غريبا مثله. وهو إذ يزاوج بين فنون الميديا المعاصرة كلها من أجل الوصول إلى الصورة المناسبة فانه لا ينسى الأصل الغرافيكي (الحفر الطباعي) لكل مشهد يراه أو يفكر به. ربما العودة إلى الأصل تقلل من خسائر غربته. أذكر أنه في محاولة أخرى سعى إلى تنظيف صور لبغداد القديمة عن طريق تقنية الفوتوشوب، لكي تتاح له فرصة النظر إلى بغداد كما يهوى. بغداد التي يحب، وهي مدينة لن تكون موجودة إلا في خيال صوره. لا يخذل عمله الحالي (غسيل دماغ) موهبة المكان في خداع النظر. يستعيد نديم صنمين يوميين صغيرين، لا غنى عن وجودهما في كل بيت بغدادي. العادة تخترع أسباب جمالها. ما نلجأ إليه من غير أن نفكر يظل كامنا في أعماق الذاكرة حين الغربة. ما من أحد من العراقيين الفارين حمل معه حجر حمام أو صابون الغار. كان الهلع أكبر من الوظائف التزينيية. غير أن ذلك الشعور سرعان ما يهدأ، فتطل العادات اليومية من مخبئها، حتى ليظن المرء أن هويته صارت في خطر لو أنه تخلى عن تلك العادات. على المستوى الشخصي، يمكنني القول أن عثوري ذات مرة على صابونة من حلب في أحد الأسواق ببلدتي السويدية الصغيرة قد شكل مصدر فرح اسطوري بالنسبة لي.
غير أن نديم كوفي لا يستعرض غربته صوريا، فالصورة لديه تشير إلى الفعل الذي غادر وظيفته المباشرة، ليكون فعلا مضادا.
ما من جمال وراء هذه النظافة. يالقسوة الفكرة إذ تتعلق بوظيفة حجر وهو يزيل طبقات علقت بالدماغ، سلبا وايجابا، لا فرق. سيعود الدماغ إلى حجمه الحقيقي، أهذا ما يجب علينا أن نصدقه؟ الفكرة لا تختصرها العبارة السابقة. ذلك لأنها تتعلق بالذاكرة وبخزانة المرئيات والمشاعر والأفكار. غسيل الدماغ يعني بطريقة أو بأخرى محو طبقات من التفكير والوعي والتجربة الحسية. الذهاب بحياة بأكملها إلى العدم. حجر الحمام هنا يعمل في ايقاع سلبي. يمحو كل ما اكتسبناه ذهنيا وصوريا من خبرات ليتركنا عراة في تفكرينا. بعدها لن نكون موجودين كما تتوقعنا صابونة الغار. النظافة تربك أحوالنا فنكون مجرد كائنات مشوهة. سيكون علينا دائما أن نفكر بتلك القسوة النظيفة التي ستجعلنا لا نشبه أنفسنا.
لا نشبه ما انتهينا إليه. الصورة تهددنا بالفكرة. وهي فكرة نسيان نظيف سيكون في إمكانه أن يؤطر ما بقي من حياتنا بخفته. ومن اللافت أن الفنان ينفذ صوره بتلذذ كما لو أنه يقدم لنا حلوى. لو شاء لأفزعنا. غير أن المفهوم الهاديء يقدم ذريعته دفعا للشبهات. لقد كانت عمليات غسيل الدماغ في العراق بحجم عمليات الغزو العسكري. غير ان كل شيء تم بهدوء. نديم كوفي يعيدنا إلى الوراء. شيء مزعج من التاريخ ظل عالقا بين حجر الحمام وبين صابونة الغار. هل صار علينا أن نتذكر؟
في هذا العمل يزيح نديم كوفي الصورة عن اطارها التعبيري لينساب بها مع فكرة قد تتجاوزها بصريا، غير أنها تظل لصيقة بها، من جهة المعنى. كانت المقاربة حاضرة. كنا هناك في الحمام (تقليديا) غير أننا لم نكن كذلك في ما أنتهينا إليه.
كنا نقصد الجسد، غيرأن الأمر ذهب إلى الروح عميقا وشرخها. تبدو النهايات كئيبة بما لا يتوقعها المرء. وكما أرى فان فن كوفي وهو يسعى إلى قياس تأثيرات الفكرة بدرجة المتعة البصرية لابد أن يشركنا في توقع تحولاته، حيث يكون الاعتراض بداهة. غير أن ذلك الاعتراض لا يعني أي امل في المستقبل. لوحتان صامتتان من نديم كوفي لا تعنيان أن التاريخ يمكن تغييره. ربما اجترح الفنان وثيقة نادرة من نوعها، سيكون علينا أن نعود إليها في لحظات الالهام. غير أن تلك الوثيقة ستكون جزءا من يومياتنا الخالصة.