ألا يزال الحديث عن (فن عربي) ممكنا؟
لا بمعنى التماهي مع هوية قومية بعينها، بل بما يشير إلى واقع جغرافي. لقد صار متعارفا عليه أن مصطلح (فن عربي) انما يشير إلى نتاج فني ينجزه فنانون عرب. ولكن هل يجوز أن يقوم فرد أو مؤسسة بجمع 33 عملا فنيا لعدد من الفنانين العرب مكتفيا بها من أجل اقامة معرض بعنوان (الفن المعاصر في العالم العربي)؟ داهمني هذا السؤال وأنا أقرأ خبرا عن قيام مؤسسة فنية خليجية تحمل عنوان (بارجيل) باقامة معرض في سنغافورة حمل العنوان المشار إليه سابقا. في ثنايا الخبر نقرأ أن فناني معظم البلدان العربية كانوا غائبين. خص الخبر بالذكر فناني السعودية والمغرب وأضاف جملة غامضة هي (وبعض الدول العربية). أما أسباب ذلك الغياب فقد لخصها مدير تلك المؤسسة والمشرف على المعرض بجملة تدخل في نطاق الالغاز الفلكية. تقول تلك الجملة ‘الوصول إلى الفن السعودي صعب، فبعض الاعمال غير مترجمة ولا توجد لها مواقع على الانترنت’ طبعا كان على الصحافي أن يقرأ تلك الجملة التي كتبها نقلا من غير أن يكون لها معنى. أظن أن تلك الجملة كانت مترجمة بطريقة سيئة.
استعانت المؤسسة كما يقول مديرها من أجل اقامة ذلك المعرض بمجموعة من المقتنيات الشخصية ومقتنيات المتحف العربي للفن الحديث في الدوحة ومقتنيات مجموعة ابراج للفنون في الامارات ومقتنيات المتحف الوطني لتاريخ وثقافات المهاجرين في باريس وغيرها. هذا ما جاء في الخبر. سيكون علي في الزيارة القادمة لباريس أن أبحث عن المتحف الوطني لتاريخ وثقافة المهاجرين لكي أضفي على زيارتي معنى جديدا. طبعا إن كان ذلك المتحف موجودا على أرض الواقع.
في ختام الخبر ترد اسماء لثلاثة فنانين عرب معاصرين هم من بين المشاركين: المصري معتز نصر، العراقي عادل عابدين، اللبناني خليل جريج. يمكننا أن نتكهن بأسماء مَن تبقى من الفنانين. وبذلك يكون الاختيار قد التزم بما تقره قائمة جاهزة يتم تداولها منذ وقت ليس بالقصير. وهو أمر لا يتطلب بذل إي نوع من الجهد. فالقيمات الاجنبيات وبمعيتهن مساعداتهن من ذوات الأصول العربية من غير المتكلمات باللغة العربية قد وضعن قائمة بأسماء الفنانين العرب المعتمدين. لا يتجاوز عدد أولئك الفنانين العشرين، ينقص واحد، يزيد واحد، لا يهم، غير أن الأهم أن لا يتم اختراق تلك القائمة من قبل فنان لم تتم تزكيته من قبل خبيرات الفن العربي، الممسكات بكل ما يمت للعروض الفنية في الخليج بصلة. مَن يعذبه السؤال عن المصير الذي انتهى إليه الفن العربي مثلي لابد أن يكون قد اكتشف بيسر أن كل المؤسسات الخليجية المعنية بالفنون صارت تستعين بالطاقم نفسه من الخبيرات ومساعداتهن. ما من مسابقة تُجرى إلا وكن حاضرات، ما من جائزة تُمنح إلا وكن وراءها. ما من مشروع فني يتم الاعلان عنه إلا وكانت بصماتهن تذيل أوراقه. فنانو القائمة المذكورة يعرفون أكثر من سواهم ما معنى هذا الكلام. لذلك صار الواحد منهم يقضي ثلاثة أرباع وقته وهو يبحث عن الطريقة المثلى لارضاء وتملق السيدات الحديديات اللواتي حزن على مكانة لم يحزها فنان أو ناقد عربي من قبل. ولكن ماذا عن الربع المتبقي من وقت ذلك الفنان؟ معظم ذلك الوقت يقضيه الفنان في التلصص على ما يفعله الفنانون العالميون المكرسون، لكن بالطريقة نفسها التي يتم من خلالها تكريس ما صار يسمى بالفنان العربي المعاصر.
لذلك فإن أي حديث عن مرجعيات للمعارض التي تحمل عنوان (الفن العربي المعاصر) انما هو نوع من التضليل والخداع والكذب. فالقائمة المعدة بدقة وعناية كانت ولا تزال المرجع الوحيد الذي تعود إليه كل المؤسسات الفنية التي لا تملك رأيا مستقلا في ما تفعله ولا تريد أن يكون لها مثل ذلك الرأي. لن يكلف القائمون على تلك المعارض أنفسهم في طلب المشورة من فنان أو ناقد عربي. فما تقوله خبيرة الفن العربي هو بالنسبة إليهم بمثابة الكلمة الفصل التي لا يمكن الرد عليها. هل هو نوع من الاستسهال أم هو نوع من التعبير عما وصل إليه أخوتنا من حالة خنوع واستجداء وجهل؟ لمَ لا يكون الإثنان معا؟ لقد صار الشعور بالمسؤولية بالنسبة للكثيرين عبئا، لذلك فضلوا أن يلقوا بذلك الشعور على كاهل من لا يشعر به. ستكون لديك قائمة جاهزة بالفنانين العرب لا تتعب من أجل انجازها ولن يعاتبك عليها أحد. هذا ما تقوله بهدوء الناشطات والقيمات الأجنبيات. ‘فن معاصر بلا هوية لبلدان كانت قد فقدت هويتها من غير أن تكتسب الحق في التحليق في الفضاء المعولم. ذلك لانها لا تنتج شيئا يدخل في نطاق الأشياء المفيدة للبشرية’. بطريقة أو بأخرى فاننا نكذب على أنفسنا من أجل أن نكون موجودين.
ما تخترعه المؤسسات الفنية وهي تتاجر باسم الفن العربي ما هو إلا صناعة خبيرات في فن التجميل المعاصر. كل هذا يمكن التغاضي عنه، ولكن اختزال الفن المعاصر العربي كله في عدد محدود من الفنانين الذين تمت تزكيتهم من قبل ما سمي كذبا وافتراء ب(خبيرات الفن العربي) انما هو جريمة في حق الوجود العربي قبل أن يكون جريمة في حق الفن العربي. ففي هذه اللحظة بالذات من تاريخنا نحن في أمس الحاجة إلى الفن ليقولنا. الفن الذي يعبر عن رغبتنا في الانعتاق والحرية. وهو فن يمكنه أن يشكل مصدر ازعاج لجماعات وجدت في ما سمي الفن العربي تجارة رابحة وعنوانا لترسيخ وجودها المؤقت في منطقة يسهل اللعب فيها من خلال الإعلانات. سيكون علينا أن نتحدث عن سوء فهم عظيم.
صار (الفن العربي المعاصر) مجرد واجهة من خلالها يتم تمرير أسماء لفنانين بعينهم. هم الفنانون الذين تم اعتمادهم من قبل متعهدات الفن اللواتي استطعن بنجاح أن يبتكرن عجينة خيال مختلف. فمن أجل أن يقلن ‘هذا هو الفن’ وهو الهدف الذي يسعين إلى الوصول إليه صرن يفرضن عددا محدودا من الفنانين، صاروا بمثابة أعضاء دائمين في الحفلة التي تنقل طقوسها من مكان إلى آخر. وإذا ما كانت تلك الحفلات المشبوهة تُجرى في مدن عربية بعينها في أوقات سابقة، فان الانتقال إلى سنغافورة مثلا يشير إلى نقلة نوعية كبيرة في الاداء، حيث تم الانتقال من التحكم بحركة الفن العربي داخل العالم العربي إلى السيطرة على عملية تقديم ذلك الفن إلى العالم، لكن من خلال الصورة التي تم اختراعها في مختبرات متعهدات الحفلة. وبذلك تكون الخطوة الثانية في عملية السيطرة على الفن العربي قد بدأت.
تركز تلك الخطوة على التعريف بالفن العربي خارج محيطه، لكن من وجهة نظر متعهداته. ولن يغادر ذلك التعريف هو الآخر حدود القائمة المعدة سلفا. وكما أرى فاننا سنصل إلى يوم لن يكون للفن العربي وجود خارج ذلك التعريف، فهو سيكون المرجعية الوحيدة التي تستند عليها عملية تداول الاعمال الفنية العربية. ولن يكون ذلك اليوم بعيدا. فهاهي بيروت المدينة العريقة في شغفها بالفنون تنحو منحى مدن الخليج وتقبل أن يدير فرنسيان شؤون سوقها الدوري (آرت بيروت). بيروت التي تعج بنقاد الفن من أمثال فيصل سلطان وسيزار نمور ونزيه خاطر ومهى سلطان ولور غريب صارت لا تجد غضاضة في أن يشرف أجنبيان على واحدة من أهم تظاهراتها الفنية. في بينالي فينسيا الأخير لجأت المؤسسة التي استولت على مناقصة تنظيم الجناح العراقي إلى قيم بريطاني لكي يختار الاعمال الفنية العراقية التي تصلح للعرض في تلك التظاهرة العالمية. يا لسعدنا. سيكون علينا في المستقبل أن نكون حذرين في استعمال مصطلح (فن عربي). ذلك لان اعادة تعريف ذلك المصطلح من قبل متعهدين ومتعهدات أجنبيات قد جعلته بعيدا عن الحقيقة التي جرى تزييفها. |