غاب قبل أيام، في عمّان، الفنان العراقي الكبير رافع الناصري بعد صراع مرير مع المرض. ليست المرة الأولى يحضر فيها الناصري في "النهار"، إذ سبق لـ"الملحق" ولصفحة "أدب فكر فن" أن احتفيا به مراراً، آخرها قبل نحو شهر ونصف الشهر، في 29/ 10/ 2013. هنا مرثية، بعد الغياب، كتبها زميلنا وصديقه الشاعر العراقي فاروق يوسف في زيارتي المقبلة سيكون عليَّ أن أذهب إلى مقبرة سحاب من أجلك. هناك سأجدك غريباً كما لم تكن من قبل. أهذا ما اتفقنا عليه؟ كنت قد علّمتني أشياء كثيرة عن الحياة وأسرارها، عن الصداقة ومقتنياتها، عن المدن ومفاجآتها، غير أن زيارة القبور لم تكن من ضمن تلك الأشياء. كانت الحياة باعتبارها صنيعتنا هي بداهتك التي كنت تضحك من أجلها. كما كانت. كما ستكون. كما لم تكن أصلاً. هناك فكرة تستحق أن نمضي بها إلى أقصى فتنتها حيث محيط هلاكها. أن نكون جميلين في الحياة كما في الموت، كما في المسافة بين عالمين محيرين. أن نتوارى خلف جمالنا ليضلّ ملاك الموت طريقه إلينا ونغرق في الضحكالجمال لا يفنى. كانت تلك هي فكرتك عن منفى الأشياء التي يُكرهها الواقع على تأجيل مرحها الباذخ. كان لديك ما تفعله دائماً وأنت تؤجل نسيانكَ إلى آخرة النزهة. كانت أصابع يديك تستجيب نداء الغيب. كانت يداك تعيش حالة إلهام دائم. هل اقترحك الخالق في استراحته مساعداً له؟ أقال لك: أنتَ للعين وأنا للضم لم يكن الإيقاع الزخرفي يعجبكَ دائماً. لذلك كنتَ تترك أثراً بالأحمر لإصبعك. بالأحمر دائماً وهو ليس لون الدم. كان ذلك الأحمر صبغة للغنج. كان ضميرك يتخيل أشكالاً منصفة في جمالها. الجمال نفسه، جمالك الشخصي لم يكن كائناً محايداً، فكيف بالجمال الذي تقطره يداك؟ كنتُ محظوظاً إذ تعرفتُ إليك في سني شبابي الأولى. حدث ذلك عام 1974. كنتُ صغيراً وكنتَ يومها كبيراً. إلهامك أسعفني بما لن أتمكن من إحصائه من أسباب الحياة المبكرة. سيكون علينا أن نبالغ في الثناء على الحياة لنتحدى الموت الذي لم يكن يجرؤ على أن يطرق أبواب حدائقنا.
يومها لم يكن لديَّ أصدقاء ميتون. كنت أُكثِر من الأصدقاء الأحياء. كانت حديقتي تضحك وهي تستقبل أزهاراً نضرة، يتركها ضيوف حياتي وهي ترنو إلى أفقكَ الرسولي. يمتلئ دفتر الهاتف بالأرقام لأسعد بالأسماء الذهبية. سيكون عليَّ أن أفهم معنى أن تطلب بعد نحو أربعين سنة أن أجلس أمامكَ من دون الآخرين. المعنى الذي سيحيطني بصوره. عطركَ يسبقني إلى جناحي الفراشة التي حملتني بعيداً عنك. أنتَ تصنع بأناقة ذكرياتك وبالقوة نفسها كنت تصنع ذكرياتي. سيكون عليَّ أن أتذكر جلستي أمامكَ وأنت تصرّ على أن تراني واضحاً بعينَي الرسام الذي لطالما شغفت بهذيانه اللوني. هل كنتَ تحبّني إلى هذا الحد؟
أعرف أني كنت أحبّك إلى هذا الحدّ. في تلك اللحظة أدركتُ أننا قد تساوينا في درجة الحبّ ونحن نقف على الدرجة نفسها من درجات السلّم الموسيقي. لم تكن في حاجة إلى المرض لكي تكون صادقاً. كنتَ صادقاً دائماً. كنت أعرف أنكَ تحبّني. ولكن أإلى هذا الحدّ؟ ذلك ما كنت أتخيّله غير أني لم أكن أتوقعه. أن تعلنه صريحاً أمام الآخرين من أحبّتك. كنتَ يومها محاطا بأصدقائك وكانت وليمتك عامرة بخيال الفرسان. لقد كنتُ ألوذ بذلك الحبّ الشامل. كنتُ أخشى حبّكَ الذي يخصّني. ذلك الحبّ الذي يضعني في المكان الذي يكسبه البكاء فكرة مترفة عن مستقبل رعيته. كان ممنوعاً عليَّ أن أبكي أمامكَ لكي لا أبدو ضعيفاً أمام مرضك. لن أسمّي موتكَ، فهو العدوّ الذي لن يجرؤ على منازلتكَ. ستهزمه بالتأكيد. كان عليَّ أن أفكر في الغياب. خصلة تعلّمتُها منك. كنتَ ترسم لتغيب. وكنتُ أكتب لأباريكَ في غيابكَ. أعرف أنكَ ستغيب في كل لحظة لتقهر الالم. كانت رسومكَ تقول ذلك دائماً. فهل اكتمل الدرس؟ كل لوحة منكَ هي درس كامل.
ترفع يدك لتقول: "لم يعد لديَّ ما أقوله. لقد انتهى الدرس". كانت المعجزة جاهزة بين بابين. لم يكن الغياب سيئاً يومذاك. هي ذي الفتنة كاملة. لقد فعل الرسّام ما يرغب فيه الخالق تماماً. ذات مرة من عام 2011 طويتَ ورقة بعد أن كتبتَ أسفلها "إلى الأعزاء سناء وفاروق مع محبتي". كانت لوحة هائلة في جمالها. ستكون زوجتي سعيدة وهي تنقل تلك اللوحة بين جدران البيت. في كل مرة تنقل تلك اللوحة إلى جدار جديد كانت تقول: "أخيراً هذا هو جدار رافع". غير أن ذلك الجدار لن يكون الأخير. أعرف أنها لن تجد ذلك الجدار. فللوحتك، على الرغم من ألفتها وحنانها وعاطفتها المتأنية، فضاؤها الشخصي، وهو فضاء يصنع حقوله الساحرة بعيداً من العيون التي تحرج نظراتها في البحث عن خطأ لن تجده. كنتَ تستعيد ما لا يُستعاد إذ ترسم ما لا يُرسم. في معرضكَ الاستعادي الأخير اختلفت صديقتان وقد اقتنيتا لوحتين من لوحاتكَ: "أيهما أجمل؟". كانتا ببراءة تبحثان عن الجواب القاطع. لم يكن جواب من نوع "كلتاهما جميلتان" مقنعاً لطرفين قررا الدخول في نزاع لم يكن الجمال طرفاً فيه. أخيراً قلت لهما بطريقة حاسمة: "لو اكتفى الناصري بتوقيعه لكان ذلك حدثاً جمالياً فريداً من نوعه لن يتكرر حتى لو قرر الناصري نفسه أن يعيد كتابة توقيعه".
كان خيال يدكَ منصفاً في كل مرة يذهب فيها إلى سطح اللوحة. كانت موضوعاتك تكتسب خفة وشفافية ليستا من جنسها. أتذكر أنكَ في واحد من أجمل تحولاتك الفنية كنتَ قد شغفتَ بالحجر. فصرتَ ترسم أحجارا، تكون بمثابة الميزان الذي تتعادل بسببه قوة الكتل والمساحات اللونية على سطوح لوحاتك. كانت تلك الاحجار أشبه بالنجوم التي تمهد لظهور قمر استثنائي. كان النور المنبعث من يديك يخفّ لإنقاذها من وحشة ليلها. "سيكون لنا نهار آخر بعد كل هذا الليل. نهار له من صفات جمالنا الشيء الكثير"، قلتَ لي وأنتَ تريني لوحاتك التي غلب عليها اللون الأسود والتي أنجرتها في الوقت الذي كان يتعرض فيها العراق للغزو عام 2003.
لن أزعجكَ بالحديث عن ذلك الاحتلال فأنتَ تكرهه. كان عليَّ أن أكون مستعداً لكتابة ما لن تقرأه. وهو أمر صعب بعد أن أمضيت عمراً وأنا أفكر في قارئي الأول الذي هو أنت. كيف يمكنني أن أكتب عنكَ ما لن تتاح لكَ فرصة قراءته؟ "سأزوركَ مرة ثانية بعد شهرين. ستكون سناء (زوجتي) معي"، قلتُ لك في آخر لقاء وكدت أضيف: "أرجوك. انتظرنا" كان صوتكَ بنقاء ملائكته مرتبكاً وأنتَ تقول "مع السلامة. محبتي لسناء". كانت هذه آخر جملة.
هل سيكون عليَّ أن أستاء من الموت؟ لم تكن ترسم من أجل ترويض الموت. كانت رسومكَ تمجد ما سوف يبقى. لذلك لم تكن الحياة بالنسبة لكَ مجرد أثر مثلما كانت في رسوم حبيبكَ شاكر حسن آل سعيد. كانت الحياة في رسومكَ تلهو وتتسلى وتتغنج وتستعرض جمالها بخيلاء ملك بابلي. كنتَ أميراً لجمال هو الشهقة التي تفصل بين ضربتي إيقاع، في مسافتهما كانت الشمس تستعرض مشاهد طريقها من الصين إلى بغداد. كانت خيوط الحرير تنسلّ من بين يديك وهي تذكّر ببلاد تشبهك. أيها الأمير الجميل كم أنا ممتنّ لك. لقد غيّرتَ حياتي.
|