ما يعجز عنه الوصف، يقوله الفعل المباشر". اختار قيس السندي أن يكون موجودا بعين خياله لحظة العصف.
فهو إذ يحيل الوقائع إلى مشاهد بصرية متوترة فإنه يرغب في الإعلاء من شأن الفكرة المربكة تفاؤلا وتشاؤما على حد سواء: بغداد لا تزال هناك. يحضر الفنان بلقاه: كتب ورماد ومياه ونفط خام. أهذا كل ما يتبقى ليشير إلى المعجزة. كمن يختار من الوجه لفتته ليقوله، السندي هنا يمزج مواده الجاهزة بأوهامه البصرية فلا يكون مضطرا إلى الوصف.
فالبلاد تحترق لكن بنفطها، وهي تغرق لكن بمائها، وهي حتى حين تنفض عنها الماضي يظل شيء من رماد كتبها عالقا بها. ربما يكمن في هذا المعنى المباشر نوع من الخيانة لجمال الإنشاء الذي يحضر متخفيا، كما في كل الأعمال الفنية التي تعتمد التجهيز منهجا لها في استدراج حواس المشاهد كلها(وليس عينه فقط) إلى مرجلها. غير أن تلك الخيانة هي الأخرى تتقدم بالعمل الفني في اتجاه مصيره،
حيث لا تعفي المتعة المتلقي من الاحتفاء بالفكرة التي يرعاها العمل الفني بحنو لغته، التي هي مصدر كل بلاغة ممكنة. غير أن الفنان وهو المعني بالأشياء قدر عنايته بمعانيها كما يبدو لي قد قرر أن يقيم حاجزا بين اللغة والأشياء. يضع لغته في مكان لا تدنو منه تلك الأشياء الغائبة، لكي يحتفي بما يقاوم الزوال. وهو هنا يدنو من الرمزية لكن بحذر.
فالمياه التي جلبها من نهر دجلة، ليست النهر كاملا، والكتب التي يحرقها لا تضم الكتاب الذي يبقى وحتى النفط فان مرآه وهو يهلك لا ينفي قيمته خادما في مسالك العيش. ولكن السندي في كل ما يقوله من معان شاسعة، تجمع المغزى بنقيضه، لا ينسى أبدا أن ما يجعله واقفا في اللحظة العصيبة التي يسعى إلى القبض على هباتها: موقفه فنانا معاصرا وجد في فكر ما بعد الحداثة ضالته التي تجعله قادرا على أن يرتجل إيقاعا روحيا يقويه في مواجهة ما يجري من حوله من وقائع.
وهي وقائع لا يمكن تفسيرها إلا وفق منهج فكري وفني معاصر. لقد قرر هذا الفنان أن يكون فعله بحجم ما يتعرض له بلده الواقف على الحافات من يأس ماحق. وهو بذلك إنما يضعنا في قلب الموعظة التي تنطوي عليها فنون ما بعد الحداثة: الحياة في صفتها منفى. كل ما لمسته يدا هذا الفنان انتقل من حيزه الواقعي إلى حقيقته الملغومة بالمعاني المشفرة. في كل عمل من أعماله هناك خارطة جينية للألم. ذعر استثنائي يلف كل هذا الفيض من الأفكار التي في إمكانها لو حضرت منفردة أن تحيط الوجود الإنساني بخواء ما تدعو إليه.
محارب على جبهات عديدة قيس السندي هذا. يحارب المعنى الذي يقوله لانه يرغب في أن يكون ذلك المعنى تميمة يضعها المسافر في رقبته لتدل عليه، وهو إذ يحارب الفن مثلما نعرفه فلأنه يرى إلى ذلك الفن من جهة كونه الكذبة التي لا تملك سوى تزيين الوقائع. لقد قرر هذا الفنان أن يكون هناك دائما. في المكان الذي لا تفسده العدالة في صفتها معجما لتفسير بداهات الظلم. وحده يقف في المكان الخطأ. فانه يهبنا ما نحتاجه من كلمات للتعبير عن شعوره بالوحشة، وهي الوحشة التي تلتهم بلدا صنع الأسطورة برخاء أبجديته ليصير الآن نوعا من الفكرة الأسطورية |