2
تأخر نوري الراوي في كتابة سيرته الذاتي (التي صدرت مؤخرا في بغداد). ولكن الراوي في كل ما فعله إنما كان في صدد كتابة تلك السيرة. بل لم يكن لديه ما يفعله طوال حياته سوي كتابة تلك السيرة، أن من خلال الرسم أو من خلال الكتابة التي كانت تجئ دائما مغلفة بالمخمل. ذلك لان علاقة الراوي بمادته (كلمة كانت أم خطا أم صبغة) هي أشبه بعلاقة الصائغ بالذهب: لا زوائد، قليله يندفع إلي الجوهر مباشرة. أحيانا تفضحه الصناعة، فلا يجد حرجا من تخليه عن المعني المباشر. فهو يعرف بخبرته أن المعاني التي قيلت تكفي، وأن لا معني في إمكانه أن ينقذنا من القبح، ففي الجمال وحده تقيم رقية الخلاص. ولان كل ما كان يفعله كان يؤكد انتسابه إليه: صنيعا ذاتيا فالتا من كل رقابة، متمردا علي كل هدف، فقد كانت أعماله الفنية وكتاباته تشف عن حرية مريحة عاشها كما لو أنها نوعا من البداهة. وهو ما يهبه ميزة نادرة لم يتصف بها فنان أو كاتب عراقي آخر. لم تكن السعادة بالنسبة إليه هدفا، حسب بل كانت أيضا المادة التي يصنع من عجينتها أشكاله التي لم تكن سوي رؤي محلقة. سعادته كانت معجزة في ثقافة كان الشقاء مرجلها. هل كان الراوي يعيش منفصلا عن حاضره والمكان الذي يأويه؟ هذا السؤال يأخذنا مباشرة إلي مفهوم الفن الصافي الذي تبناه الراوي ولم يتخل عنه لحظة واحدة. لقد عاصر الراوي تحولات الرسم الحديث في العراق (وهو المولود عام 1925) كلها. عاش مناخاتها وعرف أسرارها. غير انه ظل يطارد جمالا غامضا لا تفصح عنه الأشكال بقدر ما تؤدي إليه. رسومه تسلي مثلما هي كتاباته. لا يشعر المرء إزاءها بالضجر. فهي لا تستعرض خفتها بل تضع الخفة كلها في متناول أعيننا. من يقرا كتاباته يكون كمن يخترعها في لحظة هذيان. إنه يصف الكلمات برشاقة، بعضها إلي جانب بعض، كما يفعل بالخطوط والأصباغ لا ليقول الشيء نفسه، وهو ما كان يفعله دائما، بل ليفاجئنا بذلك الشيء، مشاغبا وبريئا. من يتذكر نوري الراوي لابد أن تغمره العافية. فنه نوع من الشفاء.
3
ترك نوري الراوي القضايا الكبري للآخرين، كان شعوره بالفقدان غايته النبيلة التي تعزز قدرته علي الرسم والكتابة. مدينته الفاضلة التي رسمها في خلو من البشر كانت تخترع خطواته التي لم يلقها علي الأرض. تلك اللوحات كانت تظهره حالما بمشية هي أسلوب حياة قدر له أن يعيشها، لكن من خلال الرسم والكتابة. لذلك كان الراوي أشبه بالمنفي في الثقافة العراقية. كان الغريب الذي تكشف حركاته عن اختلافه. هويته كانت مزيجا من أصوات وروائح وأشكال ومذاقات لم يختبرها أحد من قبل. لقد اخترع جنته، ذلك المكان الذي يشعر العراقيون اليوم بالحنين إليه بعد أن فقدوا حقهم في الحنين. هل كانت رسوم الراوي نوعا من النبوءة؟ حين أحتل العراق عام 2003 كان صوت الراوي من اكثر الأصوات المقاومة صفاء. لا شائبة، كانت المقاومة بالنسبة إليه هي الحل. لقد عاش الرجل حياته كلها مقاوما بالطريقة التي حفظت لفنه استقلاله وحريته، وها هو يري أن كل شيء يذهب إلي عدم رخيص. ليت القيامة وقعت، حينها يكون الراوي متأكدا من أن مدينته ستنهض من جديد. غير أن الاستعمار وهو عبث صبياني لا يمكن أن يكون سوي نوعا من الانحطاط الذي يغدر بكل قيامة ممكنة. في ثمانينه قدم نوري الراوي صورة الفنان وهو يتماهي مع رقي أسئلته الحضارية. لقد حل الخراب بمدينته الفاضلة وصار الغزاة يعبثون بمفرداتها، لذلك ظهر كما لو أنه بطل سومري. علينا أن نتذكر دائما أن طريق الحرير مر بمدينته. الراوي هو ابن تلك اللحظة التي لن يغفلها التاريخ. هو ابن البداهة المترفة التي قربت الصين من روما. لذلك فان نوري الراوي لا يمثل دور الشاهد بل يهمه أن يكون الحقيقة التي تشير إلي ما يتصل بها من وقائع المغفرة. ننظر اليوم إلي رسوم نوري الراوي وكتاباته بعيني من يقرأ الكتب المقدسة أول مرة.