دائماً كان هناك شيء من روبرت روشنبرغ في كل شيء. ذلك الشيء يتخطى قدرتنا على تعريفه. ذلك لأنه يسبقنا فلا يكون أمامنا سوى أن نستعيد أثره في الرسم. الرسم الذي عرفناه وهو يعيش تخليه عن بداهاته والرسم الذي لم نعرفه وهو يصفعنا بمفاجآته. فالرسام الذي لا تقنية تلخص مسعاه الجمالي استطاع أن يخضع كل التقنيات، ما ورث منها وما ابتكرته يداه لتيه فكرته عن الرسم: نوعاً من عدم الاكتراث بما يطرحه الواقع من حلول مجانية. كان روشنبرغ يرى العالم وهو يمزج البداهة بالمعجزة بطريقة تكشف عن جهل بأسرار الخلق فكان الصنيع الفني بالنسبة اليه نوعاً من استعمال قوة المعرفة الاشراقية.
خطواته التي ستظل عالقة في الهواء ما حيينا هي درجات ذلك السلم الذي شيده من اجل الوصول إلى السماء بمواد أرضية. ليس في الإمكان تخيل روشنبرغ مقيماً في واحد من أعماله حتى لو كان ذلك العمل هو «مونوغرام» الذي شاهدته مرات في متحف الفن الحديث في استوكهولم من غير أن أهتم بإحصاء الكلمات التي يمكنني أن أقولها في اقتفاء آثار فشلي في الاستيلاء عليه بصرياً. ربما لم يكن الرسام الأميركي الذي ولد في تكساس عام 1925 لعائلة المانية من جهة أصولها منشغلاً بخيبة المتلقي الفكرية، ذلك لأنه يدرك جيداً أن كل عمل منه هو خزانة أفكار لا تزال طازجة. ما كان يهمه فعلاً أن لا يخطئ الرسم طريقه إلى مزاج الخلق. وهو مزاج لا يفصل بين البدائية التقنية وأرقى أنواع التفكير.
كان إخلاص روشنبرغ لرسم لم يمارسه أحد من قبل في حد ذاته قيمة أخلاقية، تعرف عليها صديقه جاسبر جونز منذ لقائهما الأول عام 1954. ويحقق الاثنان في ما بعد نجاحات هائلة في الهدم. كان الاثنان يائسين من الرسم، كما لو أنهما لم يحلما الحلم ذاته: أن يكونا رسامين. أعتقد أن المكانة التي انتهيا إليها في تاريخ الرسم المعاصر تكمن جذورها في تلك البقعة النائية. سيكون روشنبرغ موجوداً في كل ما يمكن أن لا نظنه رسماً. وهو في ذلك انما يحيي تقليداً دادائياً عريقاً نسته الحداثة الفنية في حمى تكريسها الثقافي والسياسي والاجتماعي. لم يهتم كثيراً بنسيان أصول الرسم الأوروبي بقدر ما سعى إلى أن يزيح وهم الرسام الأوروبي عن طريقه (وهو ما فعله بالدرجة نفسها صديقه جونز أيضاً). كانت وصفة روشنبرغ للرسم لا تقرأ. فهي مكتوبة بلغات متعددة، يغلب عليها الطابع الشفويّ، أي تلك اللغات التي لا يمكن كتابتها. وهو ما جعله غامضاً، من غير أن يمنع ذلك الغموض شعوراً بالحب يطوق بحريته أشد المتلقيين بحثاً عن المعنى. ومع ذلك كان روشنبرغ في كل ما يفعل داعية معنى. غير أن معانيه لم تكن من النوع الذي يمكن الاكتفاء به من غير المرور بتجربة الرسم، كانت تلك المعاني لا تتحقق إلا من خلال معاناة المشاهدة العميقة. وهو ما أنقذ روشنبرغ من سطحية الفكر السياسي الذي انتهت إليه ستينات القرن الماضي، وهو الذي كان واحداً من أعظم دعاة تمردها. كان لديه دائماً ما يقوله من أجل الرسم، لا من اجل أن يقول الرسم شيئاً بعينه. بهذا المعنى فان الرسم بالنسبة اليه لم يكن وسيلة للتعبير، بقدر ما كان ضالة، يستطيع الآخرون من خلالها أن يذهبوا إلى أماكن أخرى. «هناك شيء ممتع سأفتقده» كان يقول. ذلك الشيء هو بالتأكيد الرسم لذاته غير أنه لم يكن يوماً ما رسماً خالصاً.
لم يترك شيئاً إلا وذيله بتوقيعه. فعل ما كان قد فعله بيكاسو في زمانه. هو الآخر لم يبق شيئاً للآخرين. روشنبرغ يقيم في المخيلة المطلقة. هو الرسم كله، إن أردنا الخلاص من الرسم. لكن الرسم استقوى به على حاله، وعلى ميراثه. كل الذين قلدوه لم يعرفوه جيداً، بقدر ما استعاروا شيئاً منه، شيئاً ينتسب إليه غير أنه يقدمه مبهماً ومبتسراً. شيء منه لا يكفي أبداً. وهو الشيء الذي قد يخونه. فروشنبرغ هو رسومه التي يمكن النظر إليها بحذر، ذلك لأنها لم تقبض إلا على أجزاء منه، وهي الأجزاء الثقيلة التي لا بد لرسام بخفة روشنبرغ أن يتخلص منها، كما لو أنها ذنب. هل يمكنني أن أقول إنّ اسوأ ما فعله روشنبرغ هو تأثيره المباشر على جيل من الرسامين احتمى بطريقة منه في الرسم قناعاً للتعبير عن حماسات سياسية أصبحت اليوم نوعاً من الحماقة التاريخية؟ كان للرسامين العرب حصتهم من هذا القدر المشؤوم.
اكتفى أولئك الرسامون برسوم روشنبرغ الستينية لتكون مداراً لبحث استهلك كل مواهبهم التي كان البعض منها كبيراً، فكان ذلك التأثير قبراً لتلك المواهب. بيكاسو آخر، يلتهم مواهب سواه، ولا أحد في إمكانه أن يرثه. كان علينا أن نبحث عنه داخل رسومه وخارجها أيضاً. المواد التي مد يده إليها أشعلت ناراً لم تنطفئ في خيال الآخرين حتى هذه اللحظة. فكان بها ومن خلالها واحداً من أهم بناة فكر ما بعد الحداثة التصويري. شذب روشنبرغ تلك المواد وأزاح قشرتها ليصل إلى جوهرها الحي، وهو ما مكنه من تأليف كون من التلاقيات الفكرية والشكلية استمد منه الرسم قوة حياة جديدة. أن يقال عن تلك المواد إنها لم تكن سوى مواد جاهزة فذلك هو التعبير الخطأ الذي قاد في ما بعد إلى سوء الفهم العميق لما أنجزه روشنبرغ بنفسه. لم يكن روشنبرغ دوشان جديداً، كان أقرب إلى بيكاسو من جهة شغفه بتدمير الأشياء واعادة بنائها من جديد. لقد توالت اكتشافاته منذ السنوات الأولى من خمسينات القرن العشرين حتى آخر يوم في حياته حين غادرنا على كرسي متحرك. وهي اكتشافات تحثنا على عدم التوقف كثيراً عند الجانب الشكلي منها بقدر ما تأخذنا مسحورين إلى أعماق فعل الرسم باعتباره نوعاً من التقصي الكادح عن أسباب جديدة للنظر. دائماً هناك شيء ما يمكن أن نراه في الشيء أو من خلاله.
كان روشنبرغ من الفنانين الغزيري الإنتاج، وكان نتاجه على غزارته ينطوي على تنوع أسلوبي وتقني لا ينافسه في عصرنا إلا تنوع النتاج الفني الذي انجزه جاسبر جونز، صديق روشنبرغ الذي كان هو الآخر مصدر الهام لعدد هائل من فناني عصرنا. اختفاء روشنبرغ سيكون من شأنه أن يدل على نهاية مرحلة كان فيها فكر ما بعد الحداثة يستقوي على حكايات المطابخ السريعة بالاسطورة التي تنتج رموزاً متعددة الوجوه.
|