|
|
مادونا أو الايقونة العارية: خفة المعنى التي لا تنسى أحدا من المنفيين |
|
|
|
|
تاريخ النشر
27/09/2008 06:00 AM
|
|
|
ليس من اليسير على المرأة، أية امرأة، أن تغدو مادونا. مادونا نفسها ستجد صعوبة في ذلك لو أنها قررت الآن أن تمحو مادونا (الصورة) لتغدو مادونا من جديد. عليها أن تبدأ في صفتها امرأة أخرى. ولكنني أشك أنها ستهتدي إلى خطوتها الأولى. لا تنفع الذكريات. الذكرى وحدها لا تعيد المرء إلى المكان نفسه. حتى المكان الأول، إن كان لا يزال موجودا فإنه لا بد أن يكون قد فارق سحره القديم. في زيارتي الأخيرة إلى باريس بحثت عن مقهى فلور لألتقي سارتر وعصبته الوجودية. أقصد أشباحهم طبعا. فإذا بهيمت يقول لي: هو عينه المقهى الذي جلسنا فيه أنا وأنت ويوسف عبدلكي ذات مرة بعد جولة طويلة في الحي اللاتيني. حينها تذكرت ذلك المقهى وعرفت أن شبح سارتر لن يكون موجودا فيه فلم أذهب إلى المقهى. مادونا ستفعل الشيء نفسه. ستخونها شجاعتها. عاملة في مقهى، مساعدة في محل للحلاقة، راقصة في مربع ليلي، مغنية ريفية، كلها أسماء لمهن لا تهب أملا أو رجاء. لا تعظني يا أبي. تقول في احدى أغنياتها. يجعلني صوتها التفت إلى تلك السنوات التي ضمتنا معا. ذاهبين إلى المجهول كنا، أسلحتنا الوهمية تقيم في هواء لم يستعمل بعد. أما رسالتنا فقد كانت مؤجلة. أنبياء حضروا قبل الوقت. رأيت المرأة التي تذكر بالعذراء وهي تقف على المسرح لتلقي كلمة لمناسبة تكريمها. شبيهة مارلين مونرو تعثرت غير مرة واختفى صوتها وبكت. لا تتوقع سوى أن تكون صورة متخيلة. ما يفعله قدرها ليس ملكها. لقد تعلمت أن تكون موجودة حين يكون غيابها هو الشكل المناسب لذلك الحضور. لا أحد في إمكانه أن يتخيل مادونا من غير صليب. الحفلة ستكون ناقصة ما لم يحضر ذلك الضيف الغامض. لقد تعبنا، هل يمكنني أن أصدق أن مادونا لم تتعب؟ البوب هو الآخر ذاهب إلى غيبته. سيقول شبحها: ان هناك معنى آخر، معنى يشير إلى الخلود. لم يكن البوب نوعا من الاكلات الامريكية السريعة. سرفانتث، المتنبي، شكسبير، اديث بياف، رشدي اباظة، فرجينيا وولف، فرانك سيناترا، انغريد برغمان، إلفيس، نعم إلفيس، لا يزال كل واحد منهم ممكنا. في هذه الحالة علينا أن نفكر بالقفص لا بالطائر. بالجريمة لا بالقتيل. 2 مادونا ليست وحدها في تلك العلبة الزجاجية، هناك على سبيل المثال كيكي سمث، النحاتة البريطانية وهناك أيضا المصورة الأمريكية سندي شيرمان وهناك النحات الهندي أنيش كابور والايرانية شيرين نشأت والايطالي كليمنته وحتى الالماني الذي يكبرهم سنا الرسام جورج بازاليتس. يمكنني أن أضيف عشرات آخرين ممن يمكن اختصار وجودهم بالأيقونة التي تعدهم مثلما تعدنا من خلالهم بفكرة وهمية عن الخلود. مادونا لا تريد أن تصدق أنها بلغت الخمسين من عمرها، على الرغم من أنها موعودة بالخلود. شيئان مختلفان تماما. سأكون قاسيا لو أنني أخبرتها أن الشاعرين العراقيين زاهر الجيزاني و سلام كاظم وهما من أبناء جيلها صارا جدين منذ زمن طويل. غير أنني لم أسعد حين رأيتها تسعى إلى استعادة ما كنا فقدناه سوية: الجسد الذي لم نراهن عليه يوما ما. كنا نظنها تمرح مثلنا إذن. في حديقة الجيران أو على المسارح الرسمية. كنا نلهو وكانت مادونا رفيقة سهونا الذي لم نكن نسعى إلى تداركه. في النهاية سنغدو كلنا مثلها مهاجرين مثلها: خزعل الماجدي في هولندا وسلام كاظم في فنلندا وزاهر الجيزاني في أمريكا وكاظم جهاد في فرنسا وهادي ياسين علي في كندا وفاضل العكرفي في سويسرا وسامر اسامة في نيوزلندا وجبار ناصر حسين في استراليا وهيمت في فرنسا ومظهر أحمد في السويد، ولكن هل تكفي هوية الهجرة للاعتراف بنا؟ أن تكون مهاجرا من ايطاليا شيء وأن تكون مادونا شيء آخر فعلا. في واحدة من أكثر أغنياتها عذوبة تظهر وهي تشعر بالبرد. المنفيون ليسوا كلهم مادونا غير أنهم يشعرون بالبرد مثلها. لكن أيا منهم لا يحلم في أن يكون مادونا. ليس في إمكان الحلم الذي يصنع مهاجرين أن يقتفي الخطوات التي يكون في إمكانها أن تعيد المهاجر إلى بيته. لذلك كانت مادونا أيقونة في مقابل أن لا تكون شيئا. الميزان ليس عادلا وليس في إمكاننا أن نختار. 3 ليست مادونا حلما. الحلم هو مادونا. هي مثل سميتها الأم المقدسة ومثل صليب الإبن. لا تقترب منا إلا لكي تؤكد أنها لا تزال بعيدة. بنت جيلنا التي سبقتنا إلى الجلجلة. آثار الملح في قدميها ويمكننا أن نرى دما يرافق خطواتها المرتبكة. لا تصدق مادونا أن نسيانها سيكون يوما ما ممكنا. هي منذورة لهلاك مختلف عن هلاكنا وهلاك وطننا. وإذا ما كنا مجتمعـــــين نقــيم على الحافة نفسها فإنها لا تنسى صورتها: الملائكة جزء من جمهوري. علينا أن نصدق سخريتها. لن يغضب صاحب الشاهر ولا رعد عبد القادر ولا كمال سبتي وهم الآن ميتون من ترفها و من رخاء معجزتها. هم يعرفون ما الذي يجري هناك. وهم يعرفون أن الحقيقة لا تستثني مادونا بل تتخذ منها دليلا. مادونا نفسها لن تصدق ذلك. لقد رأيـتها وهي تكاد تسقط على المسرح. غير أن ذلك لم يكن يعبر إلا عن براءتها. شيء من الصناعة لم يمتزج بجسدها. لا يزال فيها شيء من (أنا) لم تسرقه الدعاية. لذلك فانها لا تزال تقيم في لحظة الخيال ذاتها التي نقيم فيها: ابنة السبعينات التي لا تصدق أن البوب مثل قصيدة النثر العربية صار نوعا من الذكرى. ترفض مادونا أن تكون ماضياً لنا، غير أننا في المقابل نشعر أن ذلك الماضي الذي كانت مادونا جزءاً منه هو الشاهد الأخير على ترفنا. وهو ترف لن نعود إليه بسبب الضباب الكثيف الذي يحيط به ويغطي وطننا. مادونا التي فقدناها لا تزال حية فيما يمكن أن يكون حضورنا نوعا من الوعي الشقي بالموت.
|
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ فاروق يوسف
|
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| |
|
|
|
|
|