|
|
لا يكفي أن تكون ضجرا في سودرتاليا: فنانون منفيون يخطون برماد الفجيعة خطواتهم |
|
|
|
|
تاريخ النشر
01/11/2008 06:00 AM
|
|
|
منفي أم مهاجر أم لاجئ؟ مع كل صفة من الصفات الثلاث السابقة وهي صفات غير مؤكدة تماما، يحضر بعد ثقافي مختلف، بعد لا يفتح افقا معرفيا، بقدر ما يشير إلى حالة من التماهي مع مصير اشكالي غير متمم لما سبقه. وهو المصير الذي يلخصه سؤال وجودي من نوع: إذا كنا موجودين في هذا المكان بعينه فهل المكان نفسه موجود فعلا؟ حين أنشأ الفنان العراقي عبد الأمير الخطيب (مقيم في فنلندا) مؤسسة للفنانين المحترفين المهاجرين وجد أن ضالته هي أكثر عمقا من محاولة جمع الشتات المتشظي في معارض يدور بها بين مختلف انحاء العالم. ففي كل معرض يقيمه الخطيب ينهض من بين الركام سؤال غرائبي جديد ليضع معرفته الشخصية بالفن في مواجهة عصف جديد هو مرآة عميقة للفوضى الهائلة التي يعيشها المجتمع والفن المعاصران. المعرض الجديد الذي اقامه الخطيب لفنانيه القادمين من تركيا والهند وروسيا وفنلندا والعراق وسورية وتشيلي في قاعة كاتو بمدينة (سودر تاليا) الواقعة في محيط العاصمة السويدية هو خطوة أخرى لكسر الدائرة المغلقة التي تحيط بالوجود الفني المهاجر. غير أن الخطيب نفسه من خلال اعماله ومن خلال أفكاره التي يسعى إلى أن تكون قاعدة للنقاش المفتوح يحاول أن يحث الآخرين على الالتفات إلى قيمة المفاهيم التي تنطوي عليها فكرة تجمع للفنانين المهاجرين من جهة قدرتها على التعبير عن رؤيا إنسانية مختلفة. لذلك لا يخفي الخطيب هذه المرة انشغاله العميق بمفهوم (القريب ـ البعيد)، وهو المفهوم الذي تتفكك من خلاله عرى الزمان والمكان حيث يكون المهاجر مادة لنزاعات متفجرة نادرا ما تخلو من العنف بكل أشكاله. الخطيب هو مزيج من الفنان والداعية والمتسائل ورجل الحافات الذي لا يؤمن بالتسويات المتاحة. يعيش وجوده نوعا من التفسير الخيالي لمحنة واقعية يعيشها الملايين من غير أن يعثروا على المعنى. 2 لا أسلوب بعينه. كل الأساليب متاحة، وأيضا إنكار الاسلوب ممكن هو الآخر. في المعرض الحالي كما في المعرض الذي اقامه الخطيب في هلسنكي قبل أكثر من سنة تبدو الأعمال الفنية عارية من ذلك الخيلاء الاسلوبي الذي تمترست وراءه الأعمال الفنية الحديثة زمنا طويلا. فنانون يسعون إلى التماهي مع قدرهم الواقعي المستعاد خياليا بأقل المهارات افصاحا عن الصنعة والإتقان. فالذي يجمعهم يفرق بينهم، والذي يجعلهم متاحين يشير إلى عسر الأوضاع التي لا يسعون إلى وصفها بقدر ما يحاولون الوصول إلى قاعها من أجل التعرف على ارادتها الكامنة. درب طباشيرية ضيقة شبيهة بخط الضوء الذي رسمه الهندي (افترجيت) وهو الخط الذي امتد على أرض القاعة ليشي بمسار الروح وهي تنبعث في كل لحظة استرسال جمالي. ذلك الاسترسال الذي جسده عملا السوري مصطفى الياسين المصنوعان من ورق يدوي حيث كثافة التعبير التي لم تأسرها التقنية بل صنع الإثنان نوعا من المزاج المتأني الذي يتيح للجمال أن يعبر عن لوعته في كل لحظة. ومثل أعماله فان الياسين هذا كائن لا يلخصه الوصف ولا يخلص إليه. ذلك لأنه يعيش بعمق زمن الشعراء الملعونين. لا لأنه يكتب الشعر أيضا بل لانه اختار أن ينصت إلى إيقاع سحري لا يسمعه أحد سواه. وما فعله عبد الأمير الخطيب في عمله (الكرسي ذو الجذور) انما يعبر عن معنى المنفى الذي سعى الياسين إلى الافلات من مواجهته. كرسي يطفو بجذوره في الهواء انما هو التعبير الأمثل عن قيامة مشتبكة بكل ما سبقها. هل اراد الخطيب أن يقول أنني أحمل جذوري معي؟ ولكن الهواء أقوى. وهو سؤال آخر يظل عالقا بكل نظرة تبحث عن وعد إنساني. في عمله الثاني الذي هو عبارة عن تكرار زخرفي لصورته الشخصية خلف جدار مثقوب يحيلنا الخطيب بعمق إلى الدوامة التي يدخل إليها المهاجر وهو يسعى إلى تصفية حساباته مع ماضيه الشخصي. 3 شيء من القطيعة مع الماضي ضروري لكي نكون موجودين بقوة في لحظة العصف هذه. علي النجار (المقيم في السويد) في تجهيزه (السرير) يصنع للالم صورة تضيق بالسؤال. وهي صورة لا تشي بأي جمال مترف. لا إيحاء ولا إلهام. العنف وحده هو ما يشكل الفقرة الناقصة. يصل النجار في عمله المفاهيمي إلى نهاية الطريق. وهي النهاية التي لا تستثني شيئا من عنفها: الفن كما الإنسان. وإذا ما كان النجار قد وصل في عمله إلى حديث النهايات فإن الأعمال الأخرى كانت تشي بنبوءات من طراز مختلف. فعمل الهندي (افترجيت) يشير بأناقة إلى طريق هي في حقيقتها مرآة لروح لا يزال في إمكانها أن تنصت لما تبقى من الحكايات. درب الألم الذي ترك عليه محمد سامي أشباح خيوله وهي ترعى كلمات العاصفة. هذا المعرض كما قلت هو خطوة لكسر العزلة غير أنه في الوقت نفسه فرصة لقول حقائق غاطسة. حقائق يصر عبد الأمير الخطيب من خلال مؤسسته المعنية بالفنانين المهاجرين على أن تكون نوعا من السلاح المقاوم في مواجهة النفي والعزلة والهويات المغلقة على نفسها. هي حرب مزدوجة يخوضها بشر فقدوا الكثير من الأشياء العزيزة: ضد ماضيهم في صفته قيدا خرافيا وضد حاضرهم في صفته مكانا للنبذ والعزل المبرمج. إنهم يعالجون المسافة التي تفصل خطواتهم عن المستقبل بالإيقاع الذي يستلهم موسيقاه من ضجر أقدامهم وهي تكتشف هوة تحت كل خطوة.
|
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ فاروق يوسف
|
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| |
|
|
|
|
|