وكما أرى فان الرسالة الأساسية التي يستند إليها المعرض هي تلخيص لجملة معذبة بحمولتها الإنسانية يقولها المشاركون فيه: «ما زلنا أحياء، وما زلنا نرسم وننحت». الأمر الذي يحيلنا إلى جملة سارتر الشهيرة في كتابه «جمهورية الصمت»: «لقد عشنا» وهو يقصد حياة الفرنسيين في ظل الاحتلال الألماني. هنا فنانون يتنزهون بنا بين تجاربهم الفنية الأصيلة على المستوى الشخصي. لذلك قد يبدو مفاجئاً للبعض أنه يرى في هذا المعرض ما كان قد رآه سابقاً أو قريباً منه. كما لو أن ذلك البعض يبحث عن صورة العراق الحالي في تلك الأعمال ولا يجدها إلا غامضة ومحيرة لا لشيء إلا لأنها لا تتشبه بالصور التي يقولها الواقع، وهو واقع تجاوز الخيال بعنفه وقوة استجابته لشروط القوى الظلامية.
الرسامون (والنحاتون أيضاً) هنا ينتجون صوراً غير أنها صور لا تقف كما نتوقع في المسافة التي تفصل بيننا وبين الواقع العراقي الذي هو فضيحة عصرنا بقدر ما تسعى إلى أن تخلص إلى عالمها الخاص. ولأعترف أن هناك رسامين لا يزالون يرسمون كما لو أن شيئاً ما لم يقع في العراق. وهو أمر يبدو غريباً غير أن استيعاب مرجعيات الفن في العراق يجعلنا قادرين على تفكيك أسرار هذا اللغز. كل الفنانين العراقيين (هناك استثناءات قليلة بالطبع) ما زالوا بحكم خبراتهم الفنية أوفياء للحداثة الفنية بكل أساليبها وتجلياتها. وهم بسبب العزلات التي فرضت على بلادهم (حصار الاحتلال مسبوقاً بالحصار الدولي الذي فرض عليهم أكثر من عقد من الزمان) غير متأكدين الآن من أن ما يحدث لهم يمكن التعبير عنه بطريقة أخرى، غير تلك التي تعلموها وتربوا عليها. وهي طريقة تكشف عن تمسكها بنزق عاطفي أخرجه فكر ما بعد الحداثة من دائرة الاهتمام الجمالي.
راكبو النار هنا منبهرون بصورة اللهب، يمنعهم انبهارهم من قول حقيقة (واقع) ما التهمته النار. أبناء الحداثة الأوفياء لا يجدون حرجاً في الاعتراف بشقائهم من خلال لجوئهم الى التزيين. وهو تزيين يستلهمه أو يستخرجه كل رسام من أسلوبه وتقنياته وتربيته الجمالية.
يكفي أنهم يرسمون هناك. من كان يتوقع أن بلداً حدث له ما حدث للعراق يظل الناس فيه يثقون بالفن؟ طبعاً، علينا أن ننصت إلى مثل هذا الكلام بعمق وبإشفاق وتوسل. فهو يعبر عن حقيقة، لها صورة في كل مرآة من مرايا الواقع العراقي. يمكننا أن نعتبر أولئك الفنانين مقاومين من خلال الأوهام البصرية التي يقترحونها. لديهم ما هو مختلف من الرؤى. لديهم على الأقل ثقة بما لا يرى. يمكنهم القول أن الصور تكذب. وتلك حقيقة. بشر مختلفون قرروا أن يحتفوا بانفعالاتهم بطريقة مختلفة. ولكننا لا نعرف فعلاً ما هو مسموح به في العراق.
وهو ما يدفعنا إلى تفادي الحكم النقدي. وبالأخص على مستوى التفكير بقدرة الفنان على أن يقول صورياً ما يجري هناك. كان الفنان عادل عابدين حراً في التعبير عن رؤاه وهو يعرض مشروعه «سفريات بغداد» في بينالي فينيسيا الأخير ضمن الجناح الفنلندي، ولكن من من الفنانين المشاركين في معرض ارتيكا الحالي يمتلك شيئاً من حرية عابدين؟ لا أحد. إنهم هناك. سجناء واقعة لم يتعرف العالم على شيء إيجابي يعد بها. من حقهم أن يحتفي العالم بهم لأنهم يرسمون. ليس من حقنا أن نقول لهم أن موسيقى نصير شمة تغيرت بعد الاحتلال. فشمة لا يقاسمهم شرطهم البشري القاسي والمذل. هؤلاء الفنانون هم رسل لحظة مضادة وفالتة من لحظات التاريخ. وما رسومهم إلا تعبير عن الرغبة في العيش الهانئ والمستقل.
«لقد عشنا» وهي جملة تخيف. تخيف المحتل لأنها لا تبشر بثقافته. راكبو النار ومعهم الكثير من الشعراء والكتاب ممن يعيشون الآن داخل العراق يعبرون من خلال أعمالهم الإبداعية عن زمن مفارق للزمن الذي يقترحه الاحتلال حيزاً لخيالاتهم. بالنسبة لرسامي ارتيكا فان الحداثة لا تزال ممكنة وهو خبر طيب من بلاد عبث الظلاميون ببياضها. هناك نوع من البشارة في رسوم جعفر محمد ومحمد مسير وأحمد نصيف وستار درويش وهم رسامون لم أر رسومهم من قبل، غير أن تلك الرسوم تجعلني أعيش نعمة التلصص على رسوم الراحل الكبير شاكر حسن آل سعيد. رسومهم تعد بنوع مختلف من الرسم، هو رسم البداهة التي لا تنتظر وعداً مسبقاً. ليس هناك ذوق جمالي في انتظارها.
وكما أرى فان معرض ارتيكا الحالي بقدر ما ينقلنا إلى عراق لا تقوله الأخبار فإنه يزف لنا البشرى: هناك من الفنانين من وصلت به الطرق إلى حافات الحداثة. وهو أمر إيجابي يجعلنا نتوقع ولادة فن آخر هناك، فن لا نعرفه غير أنه سيكون الفن الذي يجاري الواقع في خياله.