... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share

 

  محور النقد

   
من بينالي القاهرة إلى بينالي الشارقة: وقائع لا تسر أحدا تطردنا من جنة الفن

فاروق يوسف

تاريخ النشر       20/02/2009 06:00 AM


 
لم يعد هناك من مكان للرسامين والنحاتين العرب في بينالي القاهرة والشارقة، وهما الملتقيان الفنيان العالميان الوحيدان اللذان يحتضنهما العالم العربي. بالنسبة لبينالي الشارقة فان تلك القطيعة صارت معلنة وصارمة بل ومقننة. اما في بينالي القاهرة فان فعل الازاحة بدأ منذ الدورة السابقة وفي دورة هذه السنة بات ذلك الفعل عنوانا لفعل مبيت مضاد من خلال توجهات لجنة التحكيم، الأمر الذي حث الرسامين والنحاتين العرب على أن يراجعوا أنفسهم ويمحوا من أجنداتهم موعد اقامة ذلك البينالي.
 
 شيء ما عصف بكل شيء، من غير أن يكون ذلك الشيء انعكاسا لحيوية المشهد الفني العربي. من المؤكد أن خسارة الفنانين العرب وهم يفقدون فرص العرض في هذين اللقاءين العالميين كانت وستكون كبيرة ومؤلمة، ولكن هل يمكننا أن نتحدث عن عقاب يواجهه فنانون تأخروا كثيرا في الاستجابة لشروط العرض العالمي، تلك الشروط التي أسست لها تحولات عظيمة ضربت مفهوم الفن بقوة؟ وكما يبدو فان ذلك العقاب، إن وجد حقا، فإنه يشمل بضرره المتلقي العربي أيضا. ذلك المستفيد الأكبر من وجود ساحتي عرض عالميتين، تشهدان حوارا تلاقحيا عميقا بين فنوننا وفنون العالم. بين ما نعرفه وبين ما لا نعرفه. ولكنها فكرة تقليدية علينا أن نتحاشى الوقوع في فخها. فإذا ما كان الفن الجديد بكل أنواعه (الفيديو، التركيب، الإنشاء، التجهيز، الفوتوغراف، التكوينات الحركية) هو ما يجب علينا أن نقوى على استيعابه فإن ذلك الاقتراح لا ضرر فيه. بل انه يجعلنا قادرين على استيعاب الصدمة الثقافية والتفاعل معها. ولكن ما لا يمكن استيعابه أن تتم الأمور المتعلقة بالذائقة الجمالية وفق قرارات رسمية. هناك فعلا هوة عميقة بين ما يراد الوصول إليه من انجازات ثقافية وبين قدرة ثقافة المحيط على الاستيعاب. سيهرب سكان البادية من القصور الفارهة لو تم إجبارهم فجأة على السكن فيها. لقد رأيت في الدوحة قبل سنوات خياما وقد نصبت قرب البيوت التي هي أشبه بالقصور.

2

لغة السوق قاتلة. البضائع تتغير كل يوم وما على المستهلك سوى أن يتابع المنشورات الدعائية التي تلقى يوميا في صندوق بريده. كذب كثير ونصائح طبية ملفقة واستدراج إلى الديون، شعاره الصفر. لا تدفع شيئا في الوقت الذي تحمل إلى بيتك فيه بضائع كثيرة، غير أنك ستضطر فيما بعد إلى أن تدفع أضعاف المبلغ المعلن. ولكن لا أحد يتعلم. لغة السوق تشوش كل ندم ممكن. اللعبة أخطر من أن يتم اختصارها وفق هذه الصيغة المبتسرة. منذ سنوات دخل الفن في هذه اللعبة، التي قد لا تحتوي على شيء من البركة، غير أنها فتحت الباب على مصراعيه لكي يكون الفن مجالا لصراع افتراضي، وهبته الأموال الكثيرة الفائضة قيمة، هي صناعة خيالية. فنان مثل داميان هيرست يبيع أعماله بالملايين، وهي أعمال لم تغادر بعد موقع الشك النقدي. وحين نتذكر مرآتي أنش كابور في شيكاغو ونيويورك التي بلغت كلفة كل واحدة منهما عشرة ملايين دولار يمكننا أن نختار التريث في الحكم. هناك من يحذر عبر العصور من المال السياسي، ولكن ماذا عن المال الفني؟ في المكتبات يرى المرء اليوم الاف الكتب الضخمة عن فناني ما بعد الحداثة فيشعر بالحيرة: متى الفت هذه الكتب ومتى طبعت ومن يقتنيها ومن يقرأها؟ لقد فوجئت في احدى مكتبات امستردام بوجود عشرات الكتب الضخمة عن البريطانية كيكي سمث. في الماضي لم أر هذا الكم من الكتب عن نحات بريطاني عظيم مثل هنري مور. حتى جاكوميتي لم ينل مثل هذه الحظوة. التفت يومها حائرا إلى صديقي الفنان محمد حسين عبد الله فهز رأسه مبتسما بحزن: هناك مال فائض ينبغي أن يصرف. ذلك المال الفائض هو المسؤول عن جزء مما يحدث للفن الآن.

3

فجأة صار علينا أن نرقص السامبا. أنا من جهتي أعتقد مؤمنا بأن علينا أن نغادر أرضنا القديمة، أن نتغير بل وأن ننقلب على أنفسنا. الثقافة العربية ميتة. لا حيوية في الاعماق. ما يحدث للثقافة هو مرآة للحال التي تعيشها المجتمعات العربية. ولا أقول جديدا حين أرى أننا نعيش في مجتمعات فقدت كرامتها وحريتها وصفاتها الوراثية ولغتها واسباب عيشها وقدرتها على أن تعد أبناءها بالمستقبل. ولكن كيف يمكننا أن نتغير؟ ذلك السؤال الذي لم يفكر به أحد من المشرفين على بينالي القاهرة والشارقة. لقد صرنا أشبه بمن تلقى عليه القنابل من غير أن يفهم سببا لهذه الحرب. الفنانون الذين ذهبوا إلى بينالي القاهرة في دورته الأخيرة عادوا إلى بلدانهم بشعور عظيم من الأسى والندم. لقد شعروا بضياعهم وسط لغات لم يستعدوا لمواجهتها. إن فك الاشتباك يبدو مؤلما. لا أحد يفكر بالاعتذار. الأمور في بينالي الشارقة واضحة، فلا أحد هناك يرحب بما نراه منسجما مع ذائقتنا الجمالية التقليدية. أما في القاهرة فان عدم الذهاب إلى الحافات قد أحرج الكثيرين. سياسية عرجاء لا يمكن اخفاء نفاقها. وكما أتوقع فان مصير بينالي القاهرة أن يلتحق ببينالي الشارقة من جهة تشدده إزاء الفنون التي صارت تقليدية. هناك مزاج ثقافي هو جزء من سياسة شاملة يفترض الذهاب إلى فن لا جمهور له. فن لا يتحقق من وجوده من خلال ذائقة ثقافية مؤكدة. علينا أن نقف في انتظار المعجزات التي تهبط من كوكب آخر. في دورة عام 1999 من بينالي الشارقة قلت لأحد الصحافيين وأنا أصف المعرض: نحن في حاجة إلى فن مختلف، فن يمكنه على الأقل أن يصف ما انتهينا إليه من خراب، أود أن أرى مزبلة بدلا من هذا الفن الرفيع. لكنني لم أكن أتوقع أن يتحول بينالي الشارقة إلى مكان يطردنا من التاريخ.

4

نحن نفكر بطريقة مختلفة عن تلك الطريقة التي يفكر بها المشرفون على بينالي القاهرة والشارقة. ولكن ما يؤلم فعلا أن لا أحد ممن صنعوا ذلك الفراق التراجيدي فكر ولو للحظة واحدة في استشارة خبير فني عربي في الفنون (على سبيل المثال: أسعد عرابي، مي مظفر، شربل داغر، طلال معلا، عبد الرحمن سليمان، عادل السيوي). لا أحد يسأل. نحن في زمن القوة. نظرية المال الفني وصلت إلينا وخربت كل شيء مثلما فعل المال السياسي تماما. في هذه اللحظة أفكر بمصير الذائقة الجمالية التي اكتسبناها خلال العقود الماضية والتي هي جزء عضوي من ثقافة شعب يرنو إلى التقدم بعيون دامعة. هناك منجم عميق للكذب. إما أن تكون صفحة الفنون التقليدية (الرسم والنحت) قد طويت نهائيا وإما أننا نعيش رهانا مصيريا آخر غير مؤكد في حياتنا التي صارت أشبه بالمركب السكران. يذهب المشاهد البريء إلى ملتقى فني نادر فلا يرى شيئا يقوي من معنوياته، بل هناك أكثر من سبب للخذلان. لا يرى المشاهد إلا ما يدعوه إلى إنكار ذاته والسخرية منها. يهمني المغزى هنا ولا تهمني الأشكال. لقد صنع الفن الجديد ابهته كلها في حاضنة كانت شروط العيش ولا تزال فيها مكتملة، أما بالنسبة لنا فان تلك الحاضنة غير موجودة. لذلك فان المشاهد لا يمكن سوى أن يخرج من بينالي القاهرة والشارقة مهزوما. واقعة غير مسرة، ولا أعتقد أنها ستسر أحدا.

شاعر وناقد من العراق يقيم في السويد





رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  فاروق يوسف


 

بحث :

Search Help


دليل الفنانيين التشكيليين

موسوعة الامثال العراقيه

انضموا الى قائمتنا البريدية

ألأسم:

البريد ألألكتروني:



 

 

 

 

Copyright © 1997- IraqiArt.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
ENANA.COM