لو أن بغداد كانت موجودة لاحتفت بسبعين ابنها ضياء العزاوي. الرجل الذي غادرها منذ 35 سنة من غير ان يعود اليها (ربما عاد مرة واحدة. أنا غير متأكد)، غير ان لهب فجرها لم يفارق اصابعه. الرسام الذي لا يصب على سطوح لوحاته اصباغا بل أحلاما مستلهمة من ليل تلك المدينة التي صار الانتظار مهنتها. لقد اهتدى العزاوي الى اقصر الطرق التي تصل به الى قلب مدينته: صبرها. فكان صبورا مثلها. وفتيا وعاصفا مثلها ايضا. علمه درس التنقيب بحثا عن الآثار أن يتوقع العثور على الذهب في كل لحظة عمل وكدح. فكانت موهبة الكفاح لديه تتوازى مع قوة الالهام. في كل ما فعله كان العزاوي يصدر عن يقين مطلق يعلي من شأن الشظف. شغفه بالارادة الانسانية أعانه على فهم بلاده باعتبارها ورشة خيال لا يكف عن التحليق.
من النظرة الاولى التي يلقيها المرء عليه لا بد أن يدرك انه انما يقف امام متمرد كبير. تمرد العزاوي صار مع الزمن المضني نوعا من الخبرة. غير أنها الخبرة التي لم تفقد فعل التمرد طراوته وعفويته، بل ان تراكم المعرفة لدى العزاوي وهو نموذج للمثقف العضوي حقا قد أكسب تمرده الخلاق معاني عميقة صنعت مواقف انسانية جذرية، دقيقة وواضحة صار الفنان يتخذها بثقة في اللحظات التاريخية العصيبة التي تمر بها بلاده. لذلك فان حصر العزاوي في رسومه أو في كتاباته أو في منحوتاته أو في مشاريعه الثقافية الهادفة الى الحفاظ على الارث الفني العراقي وحدها قد يفقدنا البوصلة التي يكون في امكانها ان تقودنا الى مفهوم الفنان الشامل الذي حرص هذا الفنان على تجسيده والتبشير به. فالعزاوي هو كل ما يفعله، غير انه ايضا كل ما يفكر فيه ويحلم به. لا تكمن قيمته كلها في كونه واحدا من اهم الملونين العرب، ولا في كون خطوطه تذهب الى الروح مباشرة من غير ان تلبث في العين طويلا، ولا في كونه ألهم الشعر العربي حضورا تصويريا لم يكترث بالوصف، ولا في كونه بعث الحياة في الملاحم العراقية القديمة بل في ذلك كله مضافة اليه قوة تدميرية وتأسيسية هائلة، كامنة فيه لا تتسع لها أية مساحة تعبير واقعية متاحة.
ربما علينا أن نتأمل ذلك المفهوم الذي اجترحه العزاوي وصفا للفنان الذي يرود الكون مدفوعا بقوة انسانيته الكامنة. وهو مفهوم يناسبه وينطبق عليه فعلا بالقدر الذي تضيق بحريته المفاهيم النقدية السائدة. شيء من هذا الفنان سيبقى، غير أنه الشيء الذي لا يمكننا العثور عليه في جزء محدد من سيرته. ستفلت بالتأكيد اجزاء كثيرة، غير ان ما لا ينسى من العزاوي انه أعاد التمرد الى خلاصته العراقية: الملك السومري الذي يضحي بملكه من اجل أن يعثر على عشبة الخلود. وبهذا فان قيمة العزاوي في الثقافة العربية (بضمنها الثقافة العراقية) ليست مرآة لما انجزه الرجل في الرسم او النحت (وهو انجاز حداثوي ضخم ومهم) فحسب بل وايضا لما يمثله مشروعه الطليعي من اهمية على مستوى معرفي، وهو مشروع قائم على نظرة نقدية صارمة تبحث في شؤون علاقة العربي بعصره. في المسافة التي تفصل ما بين (تل الزعتر) و(المعلقات) هناك طرق كثيرة استطاع العزاوي أن يؤثثها بأسئلة جمالية عاصفة، كان الوجود العربي كله ملعبها. بذريعة الرسم فتح العزاوي طرقات قادت خطانا خارج ما هو متداول من الرؤى والافكار في الحياة المباشرة.
3
أن يكون المرء عراقيا أكثر مما يجب، هل هي صفة ايجابية؟ في حالة ضياء العزاوي فان تلك الصفة تعني قدرة المرء على ان يتماهى مع اللامرئي من وجوده ليذهب من خلال ذلك الوجود في اتجاه فضاء عالمي لن يكون الذهاب اليه مقصودا لذاته. ما يظهر في رسومه من استغراق تأملي عميق في الرموز والاشكال والاشارات العراقية ما هو الا تعبير عن الرغبة في تفكيك أسرار ذلك الارث الجمالي والمعرفي العظيم الذي يقيم خارج حدود حيزه الجغرافي. عراق ضياء العزاوي لا يشبه أي عراق آخر. ليس هو عراق التاريخ تماما، فما من مدائح ولا مراث مجانية، وليس هو عراق الحياة اليومية والناس العاديين فما من حنين رومانسي ولا بكائيات، وليس هو العراق الذي يقيم على الخارطة باعتباره كيانا ارضيا فما من صورة لتصف.
ربما نجد عراق العزاوي في كل لحظة فراق مصيري. يكون هذا المفهوم اكثر غموضا من خلال التوضيح. الطائر الذي اغرم به العزاوي هو الأكثر شبها بذلك العراق. فكرة ملتبسة عن جمال يكون وسيطا بين الخلائق، بعضها بالبعض الآخر. عراق لا تكشف عنه الرسوم ولا تزعم أنها تحتويه، بقدر ما تسعى إلى تجسيد قوته وخيلائه وتعففه وترف خياله. يقبض العزاوي على ضربة قدمي الطائر على الأرض التي تطلق الهواء في الجناحين ليعبئها حكايات. ليس للاسطورة شكل غير ان الرسام لا يميل الى الرضوخ لما يواجهه من تيه. كل حكاية من حكاياته تفتح أمامنا بابا نطل من خلاله على لغز لجمال محير لا يزال يتشكل. رسوم العزاوي هي منجم حكايات، غير أنها الحكايات التي يتشكل نسيجها من صور متخيلة. الرسم هو الواقعة الوحيدة التي ينظر إليها العزاوي بيقين مطلق. لطالما نظرت اليه متوهما انه خرج لتوه من احدى لوحاته: سومريا هابطا على سلم الزقورة بأسرار الغيب. ثقة العزاوي بالرسم لا تخطئها العين. ثقته بالعراق كذلك. هو عراقي أكثر مما يجب. لم لا؟
4
ما السر الذي يجعل ضياء العزاوي حاضرا بقوة وعمق في الثقافة العراقية بالرغم من غيابه حوالي 35 سنة، لم يعرض اثناءها داخل العراق أي عمل من أعماله الفنية؟ أعتقد ان العزاوي كان ولا يزال بالنسبة لعدد كبير من المثقفين العراقيين بمثابة الضمير الحي المنفي. العراق ليس مقبرة. ويضيف: لن أعود الى مقبرة.
قال العزاوي كلاما قريبا من هذا المعنى قبل سنوات قليلة. بجملته المؤثرة تلك لم يصف العراق كما يعرفه ويتمناه بل العراق الذي صنعه المحتل والمتحالفون معه، وهو العراق الذي كف عن أن يكون وطنا.
رسوم العزاوي تبقي العراق قويا وكريما ونقيا ومكافحا ومقاوما وصلبا ومتمردا وأبيا ومشاغبا وعنيدا. فالعزاوي في رسومه كما في كتاباته ينصص على أصل لم تعد النسخة الحالية من العراق المعروضة للبيع قادرة على استيعاب قوته.
وهي قوة مولها العزاوي في صفته واحدا من صناعها بأعصابه ورؤاه وخبرته وكفاحه وثقته المطلقة بالعراق. شيء من العزاوي سيبقى هو الشيء نفسه الذي سيبقى من العراق. إن رؤى ذلك الضمير المنفي تظل تمس بأجنحتها أوراق الوردة التي لن تنغلق على نفسها مثل قبر.